• 2022-05-17

المنهج النبوي في المحافظة على الصحة العامة

الاهتمام بنظافة الأسنان ورائحة الفم

لعل الناظر إلى شعوب الحضارات القديمة يجد أن تلك الشعوب كانت عندما يعاني أحد أفرادها من مرض أو بلاء فإن حكماءهم وأطباءهم غالبًا ما يلجأون للسحر والشعوذة، وقد يصل الأمر في الكثير من الأحيان إلى الشعوذة المضرة، ولم يخلُ طب الأسنان من ذلك. يقول الدكتور عبدالله عبدالرزاق مسعود في كتابه (السواك والاعتناء بالأسنان) "لقد كانت طرق تنظيف الأسنان عند غير المسلمين في الماضي شعوذة ومضرة، وعلاوة على ذلك كانت هنالك طرق تقشعر منها الأبدان في وقتنا الحاضر من قذارتها، إذ كان شائعًا في أوروبا المَضْمَضَةُ بالبول لتنظيف الفم ومعالجة أمراضه! علاوة على الوصفات الأخرى مثل مضغ قلب حية أو ثعبان أو فأرة مرة في كل شهر لوقاية الأسنان وعلاجها! وكان الدكتور فرنسيسكو دولاهاي (عام 1694م) يعالج الأسنان ويقيها من المرض بتعليق جذور الكرفس بالعنق، أو حمل سن شخص ميت!".
وإليكم النص الذي قاله الأستاذ الدكتور شوكت الشطي في كتابه (رسالة في تاريخ الطب): "وكان الغربيون في القرون الوسطى أقل تذوقًا للنظافة من الشعوب المتوحشة، ويمكننا إيجاز ما كانوا يعملون لوقاية أسنانهم، من ذلك المضمضة بالبول كما كان شائعًا عند نبيلات الرومان وكانوا يفضلون البول الآتي من إسبانيا فإذا لم يتيسر استعاضوا عنه ببول الثيران! وقد كان ذلك شائعًا في القرن السادس عشر".
وفي المقابل فإن الشعوب الأكثر قِدَمًا والتي كانت تعيش على الفطرة والحياة الطبيعية كانت ذات حظوظ أوفر، إذ كشفت بعض الدراسات التي أجريت على الجماجم البشرية للشعوب القديمة أنها كانت خالية من نخْر الأسنان والتسوُّس، إذ وُجِد أن الجماجم البشرية التي سبقت العصر الحجري الحديث كانت خالية من نخْر الأسنان، إلا أنه بدأ يظهر بعد تلك الحقبة ولكنها كانت محدودة الظهور غير أنها بدأت تزداد تدريجيًا في العصر البرونزي، وكانت واضحة لدى الرومان واليونان.
ويشير الدكتور محمد علي البار في كتابه (السواك) إلى أن آثار النخْر بدأت تظهر واضحة للعيان، ومنذ أن جرى إدخال السكر (المصفَّى) والدقيق الأبيض (النقي) إلى أوروبا بكميات كبيرة في القرن السادس عشر شهدت أوروبا زيادة مستمرة ومضطردة في نخْر الأسنان حتى عام 1970. ويستطرد قائلاً: "ومنذ ذلك تنبهت السلطات الصحية والجمهور لمخاطر الحلويات والسكر وانتشرت الحملات المنتظمة ضد الشوكولاته. وبدأ لأول مرة منذ 400 عام انحسار موجة نخْر الأسنان، وشهدت ثمانينيات القرن الماضي انحسارًا قويًا لنخْر الأسنان في كل الدول المتقدمة صناعيًا، وذلك نتيجة الوعي العام وانتشار استخدام الفلورين في الماء وكعلاج وقائي، والإقلال بشكل لافت من الحلويات وخاصة الشوكولاته والسكر وزيادة استخدام الألياف مثل الخَضراوات الطازجة والفواكه والسلطة الخضراء (الخس والجزر والخيار والطماطم ...إلخ).
ومع هذا فإن نخْر الأسنان لا يزال يشكل تهديدًا خطيرًا للأسنان من سن الطفولة إلى سن الرجولة. وعلى سبيل المثال فقد ذكر المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية أن معدل الإصابة بنخْر الأسنان في سن الخامسة هي 3 أسنان نخِرة، وعندما يبلغ الطفل سن الخامسة عشرة توضح الفحوص أنه تصبح لديه 10 أسنان نخِرة، وقد تم إجراء هذه الإحصائيات عام 1970".
إلا أن المنهج والفكر الإسلامي كان ومايزال أبعد ما يكون عن هذه النوعيات من العلاج النابع من السحر والشعوذة، فالمنهج الإسلامي في العلاج تم بناؤه على منهجية الطب النبوي من ناحية وعلى المنهج التحليلي الذي ابتكره علماء المسلمين من ناحية أخرى، وحتى المنهج التحليلي كان أساسه الطب النبوي الشريف. ولعلنا نجد أن من أبرز وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحافظة على البدن والصحة العامة كان الاهتمام بنظافة ورائحة الفم، إذ يمكن أن يلاحظ الدَّارس للسيرة النبوية الطاهرة مدى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الموضوع وذلك من خلال تفريش الأسنان بجذور شجيرة الأراك، وقد وجدنا في العديد من الأحاديث النبوية الشريفة، مثل هذا التوجيه، إذ وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ممارسة السواك (السياك أو الاستياك هو استعمال عود أو نحوه لتنظيف الأسنان لإذهاب التغَيُّر في الرائحة ونحوه) وهو واحد من سنن الفطرة. عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "عشْرٌ مِن الفِطرة: قصُّ الشَّارِبِ، وإعفاءُ اللِّحيةِ، والسِّواكُ، واستنشاقُ الماءِ، وقصُّ الأظفارِ، وغَسْلُ البَراجِمِ، ونَتْفُ الإبْطِ، وحَلْقُ العانةِ، وانتقاصُ الماءِ" (أي الاسْتِنْجاءَ)، وقال زكريا: قال مُصعب: ونسيتُ العاشرةَ، إلَّا أن تكونَ المَضمضةَ. أخرجه مسلم.
وتجب ملاحظة أن سنن الفطرة تعني الأمور التي سنَّها الله سبحانه وتعالى للأنبياء وأمرهم بممارستها، وأمر الناس بالاقتداء بهم بشأنها، فهي تمثل الطهارة الظاهرية والباطنية. وربما هذا من عِظَم أمر الاستياك وفائدته في تنظيف الفم من بقايا الطعام ومخلفاته.
وورد عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "لولا أن أشُقَّ على أمَّتي (وفي رواية أخرى على النَّاس) لأمَرتُهم بالسِّواكِ مع كلِّ صلاةٍ". رواة البخاري. وفي صحيح الجامع "ومع كلِّ وُضوءٍ". وإنْ دل هذا الحديث على أمر مهم فإنه يدل على أهمية الاستياك وخاصة عند الدخول في صلاة الجماعة وقد تؤذي رائحة الفم المصلين، فضلاً عن أن المصلي في الصلاة يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لذلك يجب أن يكون في أجمل صورة، ودلالة على ما نقول ما ورد في الحديث النبوي الشريف الذي رواه النسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مَطْهرة للفم، مَرْضاة للرب".
ومن الصور الجميلة التي كانت يمارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يستاك قبل دخوله المنزل، فعن عائشة رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسِّوَاكِ. رواه مسلم. ولا ريب أن هذه صورة رائعة من سلوكيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل حياته صور رائعة، إذ كان يهتم بنظافة أسنانه ورائحة فمه قبيل دخوله المنزل على إية زوجة من زوجاته، لذلك فإنه حريٌّ بنا أن نعيد التفكير في صحة أفواهنا ونظافتها.
وتبقى لدينا العديد من الأسئلة منها: لماذا شجرة الأراك بالتحديد؟ ومن أين تأتي روائح الفم؟ ولماذا اهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتنظيف الفم؟ ولماذا أصبحت من سنن الفطرة؟
كل هذه الأسئلة سنتعرض لها في المقال القادم، إن شاء الله.

آخر أخبار الدكتور زكريا الخنجي

  • بروتوكول وآداب تناول الطعام

    2022-12-20

    عندما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لتناول الطعام مرة وجد أن يد الصحابي الغلام (عمر بن أبي سلمة) رضي الله عنه تطيش في الإناء، فقال صلى الله عليه وسلم بكل هدوء ومن غير غضب أو زجْر بهدف تعليم الغلام وتعليم الأمة واحدة من أهم آداب تناول الطعام وخاصة ...

  • الشذوذ الجنسي وكارثة العصر

    2022-10-16

    نستشعر من الأحاديث النبوية الشريفة تشدُّد النبي صلى الله عليه وسلم وتجريمه وإنكاره بذكر اللعن من الله في موضوع تشبُّه الرجال بالنساء وبالعكس ، كما نلمس حرصه صلى الله عليه وسلم على محاربة بوادر هذا الأمر لما قد يفضي إليه في عدد من الأحاديث النبوية الش...

  • الاستنجاء من البول والغائط

    2022-09-17

    قد نصاب جميعنا بالقُرْف عندما نتحدث عن موضوع البول والغائط، ولكن هل نعتقد أنه من قبيل الصدفة أن يُطلَب منك عيِّنة من البول أو البراز عندما يريد الطبيب الكشف عن بعض الأمراض التي تعانيها ؟ في دراسة لنيل درجة الماجستير بعنوان (الوقاية الصحية في السنة ا...

  • الوضوء وأهميته العلمية والصحية (2/2)

    2022-08-16

    تناولنا بالشرح في العدد الماضي الأهمية العلمية والصحية للوضوء بصورة عامة، ثم عرّجنا إلى موضوع الأهمية العلمية والصحية من غسل الوجه، وكذلك الأهمية العلمية والصحية من غسل اليدين إلى المرفقين. ونعلم أن الوضوء لم يكتمل بعدُ عند هذه الخطوات، لذلك سنواصل ف...

  • الوضوء وأهميته العلمية والصحية (1/2)

    2022-07-15

    ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم أنه قال "الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ"، وعندما فسر الإمام النووي معنى الطهور في كتابه (المجموع شرح المهذب) قال: "وأما الطهارة في اصطلاح الفقهاء فهي إزالة حدث أو نجَس أو ما في معناهما وعلى صورتهما"، وبن...

  • السواك ونظافة الفم والأسنان

    2022-06-16

    وجدت مجموعة من الدراسات أن الثِّقَل الميكروبي الذي يعيش في الأحوال الطبيعية بالفم متعدد الأنواع ومختلف الأشكال والأحجام، إلا أنه وُجِد أن فم الجنين وحتى الوليد في لحظاته الأولى قبل أن يتناول الطعام أو أن يشرب الحليب عادة ما يكون خالياً من البكتيريا، ...